من بين أمواج الظلم الهالكة وضربات الأيام الموجعة راح يتخطى بخطوات ملؤهاالأسى لتقوده الأقدار إلى ما يدعى بالمنفى .. لم يكن لديه جرم سوى انه كان يحمل اسماً ولقباً ترتعد له فرائص الجبروت لتسلب منه أجمل أيام الصبا بعيدا عن الأهل والوطن ...ولم يجد اليأس مكانا له في عمق ذاته فلا زلت أراه في مخيلتي يعانق المنفى ليصبح له وطنا اشعر به وهو يرتق هاجس الظلام المتخثر في أرض من أيامه القاحلة ليصنع له غيوماً من الطموح وينثر بذوراً من الشقاء ويسقيها بماء من التضحيات ويغذيها بشعاع من الأمل ويمسح عليها بيد أنقى من البياض الحقيقي لتنبت براعم من طموحاته الكبيرة وتزهر ليفوح عبقها على جميع من حوله وظل يجاريها ويداريها حتى أصبحت أشجار غلباء بعد أن أفنى سنوات طوال من عمره المشبع بالحزن في إنباتها .. لكن .. راحت تطرح الأحداث نفسها مرة أخرى لكي تأتي الشياطين المقنعة بقناع الملائكة وتحرق أحلامه التي أوشكت على البلوج ليسرقوا جعبة أتعابه بلا استحياء .. ولم يكن الا صابرا .. وها هو يبزغ في عالمنا المضطرب والمتحجر ليلين الفولاذ بكلماته اللامعة ويبعث بريقا من الود في مكان طالما افتقد ذلك الشعور ليملأ جدرانه بالدفء بعد ان كانت لا تنشر الا البرد كان يخفي حزنه تحت آلاف المشاعر فلم أجد فيه الا ابتسامة شفافة ترتسم على محياه وهو يداعب الكلمات .. وبعد ان توالت عليّ أشباح القدر لتسلب مني أزهار السعادة وجدني دفينة في صمت المقابر فبدأ يدب الحياة في ذلك الجسد الميت بعطف الأبوية ويمد يده الى عالمي المظلم ليزيح عني ثوب الليل الأسود ويضع على رأسي إكليل الصباح الأبيض .. كنت اكتفي بسماع ما يقول لأنه يحيطني بالدفء والطمأنينة وان بدأت بالكلام وجدته صاغيا ممعناً إلى ما أقول لطالما حدقت في وجهه فرأيته كلوحة خطت بعناية لكن تطاولت أيادي القدر لتشوه جمال اشراقتها ويبقى ذلك النور الذي يشع من أعماقه .. لطالما أخذتُ أرنو إلى عينيه فلم أجد سوى شقاء السنين وآلام الزمن التي تختفي خلف الكثير من نظرات العطف كان يشع على شفاهه بريق الكلمات الذي لا يرضي عيون ذئاب الظلم حتى لا يعميهم ولا زلت أراها بأنيابها تريد تمزيق أمانيه الضاجة تلك الأماني التي بدأت تتحقق على رغمهم جميعا لأنها تستند إلى شئ لم اعرفه حتى الآن لكني أيقنت بان ذلك الشئ أقوى من الظلم والجبروت لذلك لم أراه إلا صامدا شامخا لا يتخلى عن الكبرياء والتواضع والحب والعطف رغم إن كل من حوله كان يجهل من يكون ذلك الشخص حتى اقرب الناس إليه كان يجهله ولا يزال .. لطالما وقفت أمامه فرأيت نفسي لاشيء في عالم يحفه مثل هؤلاء الرجال الصابرين والمجاهدين فأمام صبرهم ما هو صبرنا وأمام آلامهم ما هي آلامنا وأمام شخصهم من يا ترى نكون نحن .. كانت في جوفي تضطرب أسئلة وتطرح نفسها على فكري عنوة كم تمنيت إن أجثو أمامه وأسأله :هل انحنيت أمام آهاتك يوما ؟ هل فتحت عينيك صباحا فشعرت إن لا احد حولك سواك؟ هل وقفت أمام المرآة يوما فلم تتعرف على نفسك؟ هل شعرت بالظلم وعجزت عن الانتقام؟ هل سلبت الهواجس من عينيك نومها لتدفعك إلى التقاط القلم وتسطرها بكلمات جذابة؟ هل أنت مثلنا تبكي من الأيام ليلا؟ ولازلت إلى الآن أغفو كل ليلة على أمنية لم تتحقق....